العنف المسلح.. كيف تشوّه النزاعات أرواح الصغار قبل أجسادهم؟

العنف المسلح.. كيف تشوّه النزاعات أرواح الصغار قبل أجسادهم؟
الأطفال وتداعيات الحروب والنزاعات

في عالم تتصاعد فيه وتيرة النزاعات المسلحة، تتجاوز الكلفة البشرية للحروب مجرد أعداد الضحايا، فخلف كل رصاصة وقنبلة متفجرة، يكمن دمار صامت لكنه عميق يفتك بالصحة النفسية لأجيال بكاملها من الأطفال والشباب، إن العنف المسلح لا يمزق الأجساد فحسب، بل يمزق أيضاً النسيج النفسي والاجتماعي، ويُلقي بظلاله الثقيلة على مستقبل هؤلاء الناجين الصغار، إنها أزمة إنسانية متفاقمة تتطلب اهتماماً عاجلاً، فالملايين من الأطفال والشباب يعيشون اليوم تحت عبء الصدمات النفسية، في واقع قاسٍ يهدد بتشكيل جيل مثقل بالاضطرابات النفسية والسلوكية.

وشهدت العقود الأخيرة تحولاً في طبيعة هذه النزاعات، مما فاقم من تداعياتها على الصحة النفسية، فالحروب الحديثة غالباً ما تكون طويلة الأمد، وتحدث داخل المدن والمناطق السكنية المكتظة، مما يعرض المدنيين، وخاصة الأطفال والشباب، للعنف بشكل مباشر ومستمر، فالحصار، القصف العشوائي، النزوح القسري، فقدان الأحباء، مشاهد الدمار، كلها عوامل تُشكل صدمات نفسية تراكمية.

ولا تظهر الآثار النفسية للنزاعات فقط أثناء المعارك، بل تستمر لسنوات طويلة بعد انتهائها، فالأطفال الذين يكبرون في بيئات عنيفة يصبحون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية، مثل: اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، القلق، الاكتئاب، السلوك العدواني، وصعوبات التعلم، وهذا يُعرقل نموهم الطبيعي ويؤثر على قدرتهم على الاندماج في المجتمع مستقبلاً.

وفي مخيمات اللاجئين من سوريا إلى ميانمار، وفي أحياء دُمرت في اليمن أو قطاع غزة أو جنوب السودان، تُروى قصص عن طفولة صارت مرادفة للخوف، أطفالٌ نشؤوا على أصوات الانفجارات، وشبابٌ عاشوا مراهقتهم في ظلال البنادق، الحرب هنا لا تقتصر على القتل المباشر، بل تمتد لتترك جروحًا خفية في الروح لا تُرى بالعين المجردة لكنها تفتك بالنفس ببطء.

وتُظهر دراسات متواترة من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) ومنظمة الصحة العالمية أن أكثر من 250 مليون طفل يعيشون في مناطق نزاعات مسلحة حول العالم، ويُقدر أن واحدًا من كل أربعة يعاني من اضطرابات نفسية شديدة – اكتئاب، قلق، كوابيس متكررة أو سلوك عدواني، وهذه الإحصاءات، رغم قسوتها، لا تُجسّد سوى جانبٍ من الحقيقة الأعمق: ما يخسره هؤلاء الأطفال ليس فقط الأمان، بل أيضًا إحساسهم بالانتماء والثقة في العالم.

اضطرابات ما بعد الصدمة

تشير تقارير حديثة صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أن حوالي 75% من الأطفال السوريين اللاجئين يعانون أعراضًا مرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مثل: التبول اللاإرادي، واضطرابات النوم، وفقدان التركيز في المدرسة. وفي أفغانستان، التي شهدت أربعة عقود من النزاع، أظهرت دراسة محلية أن أكثر من نصف الأطفال يعانون من قلق شديد واضطرابات اكتئابية.

الأطباء النفسيون يحذرون من أن هذه الندوب النفسية قد تُهيئ لجيل كامل صعوبات في بناء حياة مستقرة، أو الوقوع في دوامة العنف لاحقًا، يقول الدكتور خالد، طبيب نفسي يعمل مع اللاجئين في لبنان:" أطفال الحرب لا يكبرون مثل غيرهم.. يكبر فيهم الخوف والارتياب بدلًا من الأمل".

أمثلة من الواقع

في غزة مثلًا، يعيش الأطفال تحت وطأة حصار وحروب متكررة منذ ما يزيد عن 15 عامًا. تقرير لليونيسف عام 2024 بيّن أن أكثر من 90% من الأطفال يعانون نوعًا من الصدمة النفسية، وقد تحدث طفلٌ في التاسعة للمنظمة عن كوابيسه اليومية: "أخاف أن يُهدم بيتنا ونحن نائمون".. هذه الكلمات تلخص ما هو أبعد من الخوف العابر، إنها حياة تعاش في حالة ترقب دائم.

كما تشير تقارير منظمة أطباء بلا حدود وغيرها من المنظمات العاملة في غزة إلى أن الأطفال يعانون من: الكوابيس، التبول اللاإرادي، الخوف المستمر، والاضطرابات السلوكية. ويُشير الأخصائيون النفسيون إلى أن الأطفال يظهرون علامات "الشيخوخة المبكرة" نتيجة حجم الصدمات التي تعرضوا لها؛ حيث فقد الكثيرون القدرة على اللعب بشكل طبيعي أو التعبير عن مشاعرهم.

في اليمن، حيث دخل النزاع عامه التاسع، يقول تقرير لمنظمة أنقذوا الأطفال (Save the Children) إن الأطفال يُظهرون سلوكًا عدوانيًا تجاه إخوتهم، أو انسحابًا تامًا من أي تفاعل اجتماعي. وتُشير التقديرات إلى أن ما يقارب مليوني طفل يمني يحتاجون دعمًا نفسيًا عاجلًا.

أما في جنوب السودان، فرغم توقيع اتفاق سلام هش عام 2018، ما تزال آثار الحرب الأهلية (2013-2018) عميقة، حيث تفيد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الشباب يعانون من مستويات مرتفعة من الاكتئاب والإدمان على الكحول هربًا من الذكريات المؤلمة.

من فيتنام إلى سوريا

تاريخيًا، ارتبطت النزاعات المسلحة بظهور اضطرابات نفسية واسعة النطاق بين المدنيين، خاصة الأطفال. فبعد حرب فيتنام، ظهر مصطلح "PTSD" رسميًا لوصف حالات الجنود، لكن لاحقًا تبيّن أن الأطفال الذين نشؤوا في مناطق النزاع يعانون أشكالًا مشابهة وربما أشد.

وفي العقود الأخيرة، أظهرت النزاعات في البلقان ورواندا وسوريا كيف يتحول العنف المسلح إلى أزمة صحة نفسية جماعية، خاصة في المجتمعات الفقيرة حيث تقلّ موارد العلاج والدعم.

فجوة في الاستجابة

رغم اعتراف اتفاقية حقوق الطفل (1989) بحق الأطفال في النمو في بيئة يسودها السلام والأمان، تُظهر تقارير المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن ميزانيات الاستجابة النفسية ما تزال محدودة، على سبيل المثال: في خطة الاستجابة الإنسانية لسوريا عام 2024، شكّل التمويل المخصص للصحة النفسية أقل من 2% من الميزانية الإجمالية.

المنظمات الحقوقية تنتقد أن الدعم النفسي غالبًا يُعامل كخدمة تكميلية لا أساسية، رغم أن الأبحاث أثبتت أن العلاج النفسي المبكر يقلّل من احتمالية تطور الاضطرابات إلى أمراض مزمنة.

المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تُبرز أن أكثر من نصف اللاجئين في العالم هم من الأطفال والشباب، وكثير منهم يعانون من صدمات نفسية عميقة نتيجة تعرضهم للعنف، وفقدان الأسر، والنزوح. وتدعو المفوضية إلى دمج خدمات الصحة النفسية بالاستجابات الإنسانية الطارئة.

منظمة أنقذوا الأطفال (Save the Children) أصدرت تقارير كثيرة تسلط الضوء على الأثر المدمر للحروب على الصحة النفسية للأطفال، مشيرة إلى أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق النزاع يكونون أكثر عرضة بمقدار خمس مرات للإصابة باضطرابات نفسية، وتدعو المنظمة إلى استثمارات أكبر في خدمات الصحة النفسية للأطفال في حالات الطوارئ.

صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) يؤكد على أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً في مناطق النزاع غالباً ما يتم إهمالهم في برامج الدعم النفسي، على الرغم من أنهم يواجهون تحديات فريدة تتطلب دعماً خاصاً.

إحصاءات ورسائل إنسانية

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، طفل من كل خمسة أطفال في مناطق النزاع يعاني مشكلة نفسية كبيرة.

أكثر من 84% من اللاجئين السوريين في لبنان والأردن أفادوا بأن أطفالهم يُظهرون سلوكيات مرتبطة بالتوتر أو الخوف.

في فلسطين، تشير تقديرات اليونيسف إلى أن نحو 500 ألف طفل بحاجة إلى دعم نفسي عاجل.

هذه الأرقام ليست مجرد بيانات، بل وجوه حقيقية تحاول العيش في عالم تحكمه البنادق والقذائف.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية